قد ذكرنا أهم ما ورد في كتب أهل السنة مما هو نص أو ظاهر في نقص القرآن وتحريفه . . ثم عقبناه بما قاله أكابرهم في توجيهه وتأويله أو رده وتزييفه . . .
لقد استمعنا القول من هؤلاء وهؤلاء فأيهما الاحسن حتى نتبعه ؟
إن هذه الآثار تفيد أن اولئك الاصحاب نسبوا « اللحن » و« الخطأ » و« الغلط » إلى القرآن . . وهذه جرأة على الله تعالى ، وإثبات نقص له ولكتابه ، وفي ذلك خروج عن الاسلام بلا كلام .
أما ما كان من هذه الآثار في الصحاح فأصحابها والقائلون بصحة جميع أحاديثها ملزمون بها ، فإما الالتزام بما دلت عليه ، وإما التأويل اللائق والحمل على بعض الوجوه المحتملة .
وكذا الكلام بالنسبة إلى ما روي من هذا القبيل بأسانيد صحاح عندهم في خارج الصحاح .
وأما الذين ردوا هذه الاحاديث وهم كثيرون جدا ، فقد اختلفت كلماتهم في كيفية الرد ، لان منهم من يضعف الرواية أو يستبعدها تنزيها للصحابي عن التفوه بمثل هذا الكلام ، حتى أن بعضهم قال : « ومن روى عن ابن عباس . . . فهو طاعن في الاسلام ، ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من هذا القول » ومنهم من يقول : « هذا القول فيه نظر » أو : « لايخفى ركاكة هذا القول » ونحو ذلك . . . وظاهر هؤلاء تصحيح الحديث اعتمادا على رجاله ، ثم الرد على الصحابة أنفسهم .
وعلى كل حال . . فإن هذه الفئة من العلماء متفقة على أن هذه الاحاديث لا يجوز تصديقها . . قال الزمخشري بتفسير : « أفلم ييئس الذين آمنوا . . . » ( 2) : « ومعنى أفلم ييئس : أفلم يعلم . . . ويدل عليه : أن عليا وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرؤوا : أفلم يتبين ، وهو تفسير أفلم ييئس . وقيل : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوي السينات .
وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الامام ، وكان متقلبا في أيدي اولئك الاعلام المحتاطين في دين الله ، المهيمنين عليه ، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها البناء ؟! ! وهذه ـ والله ـ فرية ما فيها مرية » (3) .
فهذا موقف القائلين ببطلان هذه الآثار .
أما الفئة الاولى الدائر أمرهم بين الالتزام بمداليل الآثار وبين التأويل المقبول لدى الانظار ، فقد اختار جمع منهم طريق التأويل . . . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : « الطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لايقبل ، بل الروايات صحيحة والتأويل محتمل » (4) وقال أيضا في الآية : « أفلم ييأس » : « وروى الطبري وعبد بن حميد ـ بإسناد صحيح كلهم من رجال البخاري ـ عن ابن عباس :
أنه كان يقرؤها : أفلم يتبين . ويقول : كتبها الكاتب وهو ناعس . ومن طريق ابن جريح ، قال : زعم ابن كثير وغيره أنها القراءة الاولى . وهذه القراءة جاءت عن علي وابن عباس وعكرمة وابن أبي مليكة وعلي بن بديمة وشهر بن حوشب وعلي ابن الحسين وابنه زيد وحفيده جعفر بن محمد في آخرين قرؤوا كلهم : أفلم يتبين .
وأما ما أسنده الطبري عن ابن عباس فقد اشتد إنكار جماعة ممن لا علم له بالرجال صحته ، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته ـ إلى أن قال : ـ وهي والله فرية ما فيها مرية ، وتبعه جماعة بعده والله المستعان ، وقد جاء عن ابن عباس نحو ذلك في قوله تعالى : (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) قال : (ووصى) التزقت الواو في الصاد . أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيد عنه .
وهذه الاشياء ـ وإن كان غيرها المعتمد ـ لكن تكذيب المنقول بعد صحته ليس من دأب أهل التحصيل ، فلينظر في تأويله بما يليق به » (5) .
وظاهر كلمات ابن حجر في الموردين هو العجز عن الاتيان بتأويل يساعده اللفظ ويرضاه « أهل التحصيل » . . .
نعم ذكر في قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم . . . » (6) : « أخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح : أن ابن عباس كان يقرأ : (حتى تستأذنوا) ويقول : أخطأ الكاتب ، وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب ومن طريق مغيرة بن مقسم ، عن إبراهيم النخعي ، قال : في مصحف ابن مسعود (حتى تستأذنوا ) . وأخرج سعيد ابن منصور من طريق مغيرة ، عن إبراهيم : في مصحف عبد الله : (حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا) . وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن عن ابن عباس واستشكله . وكذا طعن في صحته جماعة ممن بعده .
واجيب بأن ابن عباس بناها على قراءته التي تلقاها عن ابي بن كعب .
وأما اتفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خط المصحف الذي وقع الاتفاق على عدم الخروج عما يوافقه . وكان قراءة ابي من الاحرف التي تركت القراءة بها ـ كما تقدم تقريره في فضائل القرآن ـ . وقال البيهقي : يحتمل أن يكون ذلك كان في القراءة الاول ثم نسخت تلاوته . يعني : ولم يطلع ابن عباس على ذلك » (7) .
أقول : وفي هذا الجواب نظر من وجوه :
أولا : إن هذا الجواب ـ إن تم ـ فهو توجيه لقراءة ابن عباس ، لا لقوله في كتابة المصحف : « أخطأ الكاتب » .
وثانيا : كون هذه القراءة « من الاحرف التي تركت القراءة بها » يبتني على ما رووه من أنه « نزل القرآن على سبعة أحرف »هذا المبنى الذي اختلفوا في معناه وتطبيقه اختلافا شديدا ، وذكروا له وجوها عديدة لا يرجع شيء منها إلى محصل (8) .
وثالثا : ما احتمله البيهقي يبتني على القول بنسخ التلاوة ، وسيأتي البحث عنه مفصلا .
ورابعا : قول ابن حجر : « يعني : ولم يطلع ابن عباس » غريب جدا ، إذ كيف يخفى على مثل ابن عباس نسخ تلاوة شيء من القرآن وهو حبر هذه الامة وإمام الائمة في علوم القرآن ؟! .
هذا بالنسبة إلى ما رووه عن ابن عباس ونصوا على صحته ، ثم عجزوا عن تأويله « التأويل اللائق » .
وأجابوا عما رووه عن عثمان بجوابين ، ذكرهما السيوطي ـ بعد أن قال : « هذه الآثار مشكلة جدا » ـ وقد نقلنا عبارته سابقا . وقال الشهاب الخفاجي ـ بعد كلام الكشاف : « ولا يلتفت . . . » ـ : « وقيل عليه : لاكلام في نقل النظم تواترا ، فلا يجوز اللحن فيه أصلا ، وهل يمكن أن يقع في الخط لحن بأن يكتب المقيمون بصورة المقيمين بناء على عدم تواتر صورة الكتابة • وما روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا : إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ـ على تقدير صحة الرواية ـ يحمل على اللحن في الخط . لكن الحق : رد هذه الرواية وإليه أشار ـ أي الكشاف ـ بقوله : إن السابقين . . .
أقول : هذا إشارة إلى ما نقله الشاطبي في الرائية وبينه شراحه وعلماء الرسم العثماني بسند متصل إلى عثمان أنه لما فرغ من المصحف . . . قال السخاوي : وهو ضعيف ، والاسناد فيه اضطراب وانقطاع . . . وتأول قوم (اللحن) في كلامه على تقدير صحته عنه بأن المراد الرمز والايماء .
تنبيه : قد نخلنا القول وتتبعنا كلامهم ما بين معسول ومغسول فآل ذلك إلى أن قول عثمان فيه مذهبان ، أحدهما : أن المراد باللحن ما خالف الظاهر ، وهو موافق له حقيقة ليشمل الوجوه تقديرا واحتمالا . وهذا ما ذهب إليه الداني وتابعه كثيرون . والرواية فيه صحيحة .
والثاني : ما ذهب إليه ابن الانباري من أن ( اللحن) على ظاهره ، وأن الرواية غير صحيحة » (9) .
وكأن المتأولين التفتوا إلى كون تأويلاتهم مزيفة ، فالتجؤوا إلى القول بأن تلك الآثار « محرفة » . . . فقد جاء في الاتقان عن ابن أشتة : أنه روى الحديث بإسناده عن عثمان وليس فيه لفظ « اللحن » بل إنه لما نظر في المصحف قال :
« أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا » . قال : « فهذا الاثر لا إشكال فيه وبه يتضح معنى ما تقدم . . . ولعل من روى تلك الآثار السابقة عنه حرفها ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان ، فلزم مالزم من الاشكال . فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك » .
قال السيوطي بعد إيراد الاجوبة عن حديث عثمان : « وبعد ، فهذه الاجوبة لا يصح منها شيء من حديث عائشة . أما الجواب بالتضعيف فلان إسناده صحيح كما ترى . . . » ( 10) .
أقول : هذه عمدة ما ورد في هذا الباب مما التزاموا بصحته ، وقد عرفت أن لا تأويل صحيح له عندهم ، فهم متورطون في أمر خطره عظيم ، إما الطعن في القرآن ، وإما الطعن في هؤلاء الصحابة الاعيان ! ! .
ولا ريب في أن نسبة « الخطأ » إلى « الصحابة » أولى منه إلى « القرآن » وسيأتي ـ في الفصل الخامس ـ بعض التحقيق في حال الصحابة علما وعدالة ، هذا أولا .
وثانيا : إن القول بعدم جواز تكذيب المنقول بعد صحته ـ كما هو مذهب الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ غير صحيح ، إذ الحديث إذا خالف الكتاب أو السنة القطعية أو الضروري من الدين أو المجمع عليه بين المسلمين يطرح وإن كان في الكتب المسماة بالصحاح . . . كما سيأتي ـ في الفصل الخامس ـ ذكر نماذج من ذلك . . .
(1) البحر المحيط 6 : 445 .
(2) سورة الرعد : 31 .
(3 ) الكشاف 2 : 531 .
(4) فتح الباري وعنه في الاتقان 1 : 270 .
( 5) فتح الباري 8 : 301 .
(6) سورة النور : 27 .
(7) فتح الباري 11 : 6 .
(9) عناية القاضي 3 : 201 .
(10) الاتقان 2 : 320 ـ 326 .